السؤال
عند نظرنا في مصنفات المحدثين، نجدهم قد تركوا لنا تراثًا واسعًا في دراسة الأسانيد وتقنينِها، بإزاء قليلٍ مما صنَّفوه في نقدِ المتونِ، وهذا أمر لاحظه ـ فضلًا عن المستشرقين ـ بعضُ المعاصرين من أهل العلمِ أنفسِهم.
فقد قرأت كلاما للدكتور يوسف القرضاوي ـ رحمه الله ـ في كتابه «كيف نتعامل مع السنة النبوية» يقول فيه: «إذا نظرنا في مساحة نقد المتون ومناهج دراستها وتحليلها ظهر البون الشاسع بين الجهود الضخمة الهائلة التي بُذِلَتْ في مجال نقد الأسانيد والجهود المحدودة التي أنفقت في مجال نقد المتون، ووضع المناهج والمقاييس العلمية لدراستها وتحليلها، وإبراز علاقات الأحاديث المختلفة بالزمان والمكان والبيئة والواقع..».
فإذا كان الأمر كما يقرره العلماء من أن المحدِّثين استعملوا كِلا النَّظرين ـ الإسناديِّ والمتنيِّ ـ في نقدِهم للأحاديث النَّبويَّة، فلماذا لم يظهر أثر هذا التَّوازن المنهجيِّ في نقد الأسانيد والمتونِ على المصنَّفاتِ في كِلا النَّقدين عندهم؟!
الجواب
إنَّ قولنا بأنَّ المحدِّثين قد نقدوا المتن كما نقدوا السَّند ليس معناه أنَّ نقدَهم للمتن مساوٍ في المقدارِ والكميَّة لنقد السَّند، إنَّما المراد بهذه المساواة مساواةُ الكفايةِ لا المقدار! بمعنى أنَّهم أعطوا كلًّا من السَّند والمتن حقَّهما من الدِّراسة؛ هذا أولا.
ثانيًا: إذا تقرَّر ما سبق، فإنَّ الحكم على منهج المحدِّثين بالتَّقصير في حقِّ المتونِ من خِلال ملاحظتِهم كميَّة الكُتب المؤلَّفة في علم الرِّجال والمتعلِّقة بالأسانيد وأحكامِها مقارنةً بالقليل ممَّا خصَّصوه للكلامِ على المتونِ: مغالطة منهجيَّة أوقعت المستشرقون ومَن تبعهم في هذا الحكم المُستعجل، حيث أنَّهم حكَموا بالكمِّ على الكيفِ! وهو ميزان غير مطَّرد، كثيرًا ما يؤدِّي إلى اختلالِ النَّتائج وانطباعيَّة الأحكام.
أمَّا عن قلَّة تصنيفِهم في تقعيد نقد المتون وتأصيله في قواعد «علم الحديث»:
فهي من أهمِّ الأسباب الَّتي دعت المستشرقين ومن تابعهم إلى القولِ بأنَّ المحدِّثين أغفلوا نقدَ المتون بالنَّظرِ إلى عدم إفرادهم لهذا النَّقد بكتبٍ خاصَّةٍ، إلَّا ما كان من ابن القيِّم في «المنار المنيف».
والسَّبب ـ في نظري ـ راجعٌ إلى طبيعة المعيار العلميِّ المُحكَّم في هذا النَّقد المتني، والَّذي نستطيع أن نحصرَه في مكوِّنين أساسين عليهما مدار اعتبارِ المتون في نقدِها، فما انطبق عليه واحدٌ منهما رُدَّ به الحديث بغضِّ النَّظر عن إسنادِه:
أوَّلُهما: استحالة ما يفيده المتن في نفسِه (مستنكر لذاته):
وهو أكثر ما يكون في جانبِ القطعيَّات العقليَّة، بحيث يخالف الحديثُ بديهةً من بدائه العقولِ أو التَّفكير القويمِ، أو يكذِّبه الحسُّ، أو تمُّجُّه الطِّباع السَّليمة بمجرَّد سماعه، ممَّا يُنزَّه عنه الأسوياءُ من عقلاء النَّاس.
ولذلك نجد هذا النَّوع من الحديث لا يُروى إلَّا مِن جِهة المجروحين في عدالتِهم وضبطِهم، ولا يُعلم له مثالٌ واحدٌ في حديثِ الثِّقات، إذْ لا يُتصوَّر مِن راوٍ يصفه المحدِّثون بالعدالة والضَّبط أن يروي المُنكر والمستحيل وما يخالف العقول، وإلَّا لَكان في ديوان الضُّعفاء والمتروكين ابتداءً، «إنَّما يوجد ما تتَّفق العقول على بطلانه في رواية الكذَّابين الَّذين حدَّثوا بالمستحيل، ولا وجه لافتراضه ـ أصلاً ـ في روايات الثِّقات، حيث كان الواقع ينفيه.
ثانيهما: معارضة المتنِ لما هو أقوى منه من جِهة الثُّبوت (مستنكر لغيره):
فإذا تعارض المتن مع ما هو أصحُّ منه مِن جهة الثُّبوتِ معارضةً حقيقيَّة ـ سواءً أكان المعارض شرعيًا أو تاريخيًا أو واقعيًا ـ فإنَّه يُردُّ به، والقاعدة المُستعملة هنا: «ردُّ الأضعفِ بالأقوى» باعتبارِ درجاتِ العلمِ والظنِّ بصدقِها.
وسرُّ ذلك الاختلاف في حجم التَّصنيف في هذين النَّوعين من النَّقد – الإسنادي والمتني – كامنٌ في أنَّ نقدَ الإسنادِ يقوم اعتبارُه على أساسين اثنين: (وثاقة الرَّاوي) و(الاتِّصال) ـ ومردُّ الثَّاني إلى الأوَّل ـ، إذ موجب الرَّد إمَّا أن يكون لسقط من إسنادٍ، أو طعن في راوٍ، وهذان معنَيانِ ظاهرانِ تنضبطُ مُحدِّداتُهما وأشراطُهما في الجُملة، فكان تنزيلُ هذه الضَّوابِط والأشراطِ واضحًا مُتناولًا لدى النَّاقد، معتمدًا على الاستعمالِ الآليِّ البحتِ لها على الإسنادِ والمتنِ معًا، مع مراعاته للقرائن في ذلك.
بخلافِ النَّقد المتَّجه إلى معاني المتونِ، فإنَّه مرتكزٌ على الأساسين الآنفين المتمثِّلين في استحالةِ المتنِ ومعارضته بما هو أقوى، وهو معنى لا يحتاج إلى كثيرِ تفكيكٍ وتفريعٍ لتأصُّل مفهومِه في أذهانِ العُقلاءِ مِن النُّظَّار.
وهكذا نرى أنَّ المحدِّثين قد أعطوا كلَّ نظرٍ حديثيٍّ متعلِّقٍ بعُنصري الرِّوايةِ حقَّه من التَّنظيرِ والممارسةِ، فلا داعيَ بعدُ أن يُدَّعى عليهم أنَّهم أهملوا التَّصنيف في التَّأصيل لنقد المتونِ، أو أن يحمِّل بعض الغيورين مِن المعاصرين بعضَ المتأخِّرين من المُحدِّثين مغبَّة هذا التَّقصير المتوهَّم، واعتبار ذلك ثغرةً تسلَّل منها الاشتباه في منهجِ المحدِّثين.
إنَّ نفي (نكارةِ المتنِ) لم يصرِّح بها المحدِّثون في شروط صحَّة الحديث لأجل أنَّها داخلة في شرط انتفاء العلَّة، كما ظنَّه بعض الباحثين المعاصرين..كلَّا، وإنَّما لأنَّ اشتراط هذا النَّفي أمر ضروريٌّ لا يمكن دفعه، ولا هو مفتقر إلى التَّأمل والنَّظر، ومن ثمَّ كان اعتناء أهل العلم بالشُّروط الَّتي تفتقر إلى الاستدلال كما سبق تقريره.
أضف إلى ذلك أنَّ الأحاديث ليست كلُّها من قبيل الأخبارِ الَّتي يمكن معرفة نكارتِها في ذاتِها، بل كثيرٌ منها من باب الإنشاء، ومِن ثمَّ لم يكن هذا الشَّرط المتنيُّ مطَّردًا عند المحدِّثين في كلِّ حديث يُراد نقده، بخلاف باقي الشُّروط الخمسة.
والله تعالى أعلم.