من تاريخ التَّجديد العصرانيِّ

من تاريخ التَّجديد العصرانيِّ

أمام الشُّعور بخطر الهيمنة العسكريَّة الأوربيَّة على بلدان المسلمين، تولَّد إحساس عند كثيرٍ من النُّخَب السِّياسية والثَّقافيَّة العربيَّة بضرورةِ تطوير الجيوش الإسلاميَّة لتعزيز قوامِ الدَّولة الحديثة، خالت تلك النُّخَب أنَّ هذا المُبتغى لا بدَّ معه من نهضةٍ علميَّة، ليس من سبيل لبلوغها إلَّا بابتعاث الطَّلبة إلى البلاد الأوربيَّة، واستقدامِ خُبرائها للتَّدريس في المعاهد والجامعاتِ العربيَّة(1) .

غير أنَّ الأمور سارت بأوسعِ ممَّا أُريد لها أوَّل مرَّة!

فمع هذا الاقتفاءِ للنُّظم الحربيَّة الغربيَّة المستحدثة، تسرَّبت مبادئ سياسيَّة ونظريّات حضاريَّة وثقافيَّة إلى عقل المُقتَفي، اقتضت تغييره لنُظم التَّعليم وبرامجه، بعد ترجمةٍ مكثَّفةٍ لكُتب المُقتَفَى في مختلف المَعارف بعُجرِها وبُجرِها.

زاد الطِّين بَلةً توارد المُبتَعثين على تبوُّئ مكان القيادة في شتَّى الميادين السِّياسية والتَّعليمية، نستطيع تلمُّس آثار هذا التَّوغُّل الثَّقافي في بعضِ الأصقاع العربيَّة في رَمزين من رموز الجيلِ الأوَّل للمبتعثين إلى أوربا، أحدهما جهة المشرقِ: أعني رِفاعة الطَّهطاوي المصريَّ، الَّذي أقام في فرنسا من سنة (1826م إلى 1831م)، والآخر جهة المغربِ: خير الدِّين التُّونسي، المُقيم في فرنسا من سنة (1852 إلى 1856م)

فكانت دعوة الطَّهطاوي إلى تنقيح الأقضية والأحكام الشرعيَّة بما يوافق مزاجَ العصر ومُستحدثاتِه، مقترحًا وضعَ مدوَّنة فقهيَّة عصريَّة شاملةٍ، في حين دعا سميُّه التُّونسي إلى الاجتهاد في أضيق الحدود، بإعادة النَّظر في الأحكام المترتِّبة على العادات المتغيِّرة(2)، ففُتح بذا الباب للعالمِ والجاهلِ، والصَّادقِ والماكر، ليتحوَّل (التَّجديد) إلى نهجِ التَّلفيق بين نصوص الشَّريعة ومُخرجات الحضارة الغربيَّة، بحسب ما تسمح به هذه النُّصوص من تأويل(3).

فهذان ممَّن وَضع بذورَ التَّبعية الحضاريَّة في نُظم الدَّولة، تعهَّدها من جاء بعدهما بالسَّقي والرِّعاية، وإن لم يتقصَّدا ما تفرَّعَ بعدُ عن تلك البذرة من علقمٍ لا تزال الأجيال تتجرَّعه إلى اليوم(4).

ثمَّ زاد الأمر على حدِّه في الهند، حيث انحازت حركة (أحمد خان) في تفسير القرآن إلى هوى العقل الأوربي ونتاجِه العلميِّ، وبذا تصير السُّنة النَّبوية غير مجديَّة من حيث التَّشريع، حائلةً دون عبثهم بمعاني القرآن(5).

فهنالك أعلن (محمَّد إقبال) فكرة «تجديد الفكر الدِّيني»(6)، وأن تخلُّف المسلمين عن المشاركة في السَّيطرة على الطَّبيعة كان سبب بلائهم، وأنَّ الحركة الَّتي من العالم الإسلاميِّ نحو الغرب تقتضي إعادة النَّظر في التُّراث، وبناء الشَّريعة من جديدٍ على ضوء الفكر المعاصر(7).

لقد ادَّعت بعض الحركات الإصلاحيَّة أنَّ بالإمكان الاحتفاظ بالتَّصور الإيمانيِّ للحياة، مع مسايرة هذا التَّصوُّر للأسلوب الغربيِّ، حتَّى تجرَّأ نفرٌ منها على وصمِ الفقه بالوضعيَّة! وتشبيه بالقانون المَدنيِّ الَّذي صنعه الرُّومان(8)، ليؤول الأمرُ إلى الاجتهاد في أصول الشَّرعِ النَّقليَّة والعقليَّة نفسها.

فلأجل تحقُّق هذا الغرض أُنشأت «مجلَّة المسلم المعاصر»، الَّتي صرَّح (جمال عطيَّة) في افتتاحيَّة أوَّلها بـ«إنَّها مجلَّة الاجتهاد، الاجتهاد المعروف في أصول الفقه، تنطلق من ضرورة الاجتهاد وتتخذه طريقا فكريًّا، ولا تكتفي بالبحث في ضرورة فتح باب الاجتهاد في فروع الفقه، بل تتعدَّاه إلى بحوث الاجتهاد في أصول الفقه، وتنطلق في طريق الاجتهاد باحثة عن المنهج والآفاق الجديدة الَّتي يستأنف منها الفكر الإسلاميُّ سيره الَّذي تجمَّد في الوقت الَّذي انطلقت فيه حضارة الثَّورة الصِّناعيَّة الأولى»(9).

ويقول (كمال أبو المجد): «إنَّ إقامة أحكام الإسلام في عصرنا تحتاج إلى اجتهاد عقلي كبير، لا يسع عاقل إنكاره…والاجتهاد الَّذي تحتاج إليه اليوم ويحتاج إليه المسلمون ليس اجتهادًا في الفروع وحدها، وإنَّما هو اجتهاد في الأصول كذلك، وليس ما تردِّده الكثرة الغالبة من المعاصرين من امتناع الاجتهاد في الأصول إلَّا التزامًا بما لا يلزم، وتقصيرًا في بذل الجهد بحثًا عمَّا ينفع النَّاس»(10).

واصمًا هو مَن لازمَ غرز السَّلف الصَّالحين في تأصيل العلومِ الشَّرعية بـ«عناصر التَّخلُّف والجمود»(11)!

ومِن أشدِّ المتحمِّسين لهذه الدَّعوى وأكثرهم تذكيرًا بها (حسن التُّرابي)، فقد ألَّف في ذلك كتابه «تجديد أصول الفقه»، وفيه قال: «في يومنا هذا أصبحت الحاجة ملحَّة إلى منهجنا الأصوليِّ الَّذي ينبغي أن تُؤسَّس عليه النَّهضة الإسلاميَّة حاجةً ملحَّةً، لكن تتعقَّد علينا المسألة بكون علم الأصول التَّقليديِّ الَّذي نتلمَّس فيه الهداية لم يعُد مناسبًا للوفاء بحاجاتنا المعاصرة حقَّ الوفاء، لأنَّه مطبوع بأثر الظُّروف التَّاريخيَّة الَّتي نشأ فيها»(12).

فلقد ألغى شرائط الاجتهادِ والأخذ بأصول العلماء، يقول: «أمَّا الشُّروط الَّتي وُضعت للاجتهاد ابتداءً ممَّا رآه الشَّافعي من العلم بالعربيَّة، والعلم بالقرآن ناسخه ومنسوخه، والعلم بالسُّنة، ومعرفة مواقع الإجماع والخلاف، ومعرفة القياس، ومقاصد الأحكام: هي شروط حادثة كحدوث تدوين علم أصول الفقه نفسه»(13).

فكان من مفرزاتِ هذا الاتِّجاه تغيير جملةٍ من الأحكام، منها تعطيل بعض الحدود، وإلغاء جهاد الطَّلب، والتَّضييق على تعديد الزَّوجات، وغير ذلك من رزايا هذا المنهج.

وهكذا ظهرت فئة مستحدثة اتَّجهت في معنى التَّجديد وِجهةً غير الَّتي عرفها المسلمون على مرِّ العصور، وحمَّلت التَّجديد الوارد في السُّنة ما لا يحتمله، وقامت بعرض أفكار التَّجديد بعيدةً عن المنهج الإسلاميِّ السَّوي، وقامت بنشر مقالاتٍ فيها كثير من المغالطاتِ كما يحلوا لهم.

ودَعت في مقالاتِها إلى تجديد أصول الفقه بله أصول الحديث، لا بطريقة عرض تلك العلوم عرضًا عصريًّا، أو إيجاد بعض الأحكام الشَّرعية لمواجهة بعض النَّوازل، وإنَّما انصبَّت الدَّعوة على تغيير أصول العلوم الإسلاميَّة من أساسِها، رغبةً في مسايرة العصر -زعموا-، وعابوا في مقالاتِهم الاعتمادَ على أحكامٍ قال بها الأئمَّة الأقدمون، وزعموا أنَّها بليت وذهبت مع عصرِهم كما بليَ أصحابها(14).


(1) «الإسلام والحضارة الغربية» لمحمد محمد حسين (ص/14ـ15).

(2) «الإسلام والحضارة الغربية» (ص/49ـ50).

(3) انظر «الفكر الإسلامي وصلته بالاستعمار الغربي» لمحمد البهي (ص/118ـ152).

(4) «الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر» لمحمد حسين (2/306)، و«الإسلام والحضارة الغربية» (ص/14ـ15).

(5) «الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية» لأبي الحسن الندوي (ص/77ـ78).

(6) وهو اسم إحدى محاضراته التي ألقاها في إله آباد بالهند سنة 1928م، انظر «الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي» (ص/71).

(7) «تجديد الفكر الديني في الإسلام» لمحمد إقبال (ص/186، 196)، وواضح للمتأمِّل في كتبه التَّداخل الَّذي يعتري فكره من حيث المؤثِّرات الغربيَّة الَّتي غشيت تصوُّره الإسلامي، إضافةً إلى الجنوح الفلسفي الَّذي حدا به إلى تأويلاتٍ فاسدة لبعض العقائد الإسلاميَّة، كما يُلاحظ عليه عدم الاعتماد على منهج منضبط في تفسير آيات القرآن، انظر أمثلة ذلك في كتابه «تجديد الفكر الديني في الإسلام» (ص/40ـ141).

(8) انظر «مناهج البحث» لسامي النشار (ص/264)، و«الإسلام والسلطة الدينية» لمحمد عمارة (ص/39ـ43).

(9) مجلة «المسلم المعاصر» (العدد الأول، 7 نوفبر 1974م).

(10)   «حوار لا مواجهة» لكمال أبو المجد (ص/41ـ42).

[11)   المصدر السَّابق (ص/50، 60، 61، 70).

(12)   «تجديد أصول الفقه» لحسن الترابي (ص/13).

(13)    «رسالة في أصول التشريع» (ص/13 ـ مجلة الاتجاه الإسلامي)، وهكذا يتحول الاجتهاد إلى اجتهاد شعبي!

(14)   انظر «مفهوم التجديد بين السنة النبوية وبين أدعياء التجديد المعاصرين» لـمحمود الطحان (ص/4ـ5) بتصرف يسير.

إقرأ أيضا