كيف وصلت إلينا السُّنة؟
أرسل الله U رسوله محمدا ﷺ رحمة للعالمين، وقدوةً للناس أجمعين، مُعلِّمًا هاديًا [ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ]
فكان من أجلى مظاهر هذا التعليم منه ﷺ للكتاب: بيانُه له قولا وعملاً، إذ كان من أعظم مقاصد بعثته ﷺ، امتثالًا لقول ربِّه تعالى: [وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ].
فكان من مقتضيات هذا البيان: أن نشر ﷺ في أصحابه سُنَّته في تديُّنه عقيدةً وشريعةً، هاديًا أمَّته إلى تلقِّي ذلك عنه بوسائل شتَّى: في خُطبه ومجالس وعظه، وبأجوبته على ما كانوا يسألونه، أو في حوادث تقع بحضرته ﷺ فيبيِّن حكمها ابتداءً، أو مسائل يستشكلونها فيحلُّ لهم إشكالها، فضلًا عما كانوا يشاهدونه منه من عباداتٍ ومعاملات.
ولأهميَّة هذه السُّنة في تقوِيم طرائق النَّاس في تديُّنهم بالإسلام، وأمر ربِّنا باتِّباعه ﷺ وطاعة أمره، حضَّ النبي ﷺ أصحابه على تحفظُّ هذه السُّنة وتبليغها لمن لا يعرفها، فكان يقول:
«نضَّر الله امرأ سمع منا حديثا، فحفظه حتى يبلغه، فرُبَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورُبَّ حامل فقه ليس بفقيه».
وكان يقول: «ليبلغ الشاهد الغائب».
فما كان من أصحابه إلَّا أن لبَّوا أمره، وهبُّوا لبثِّ ما وَعَوه عنه للنَّاس من أقوال وأفعال بحسب ما يقتضيه الحال، مع احتياطهم الشديد أن يتقوَّلوا عليه شيئا ولو خطأً، فكانوا يتحاشون الإكثار عنه، مُتحرِّين في نقل ما سمعوه عنه من ألفاظ، وقبولِ ما يبلغهم عنه من أخبار، مخافة أن يقعوا في ما رهَّب فيه ﷺ في قوله: (من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار).
وهم رغم كون عامَّتهم أُميِّين من جملة العرب، مع ما عُرفوا به من قوَّة الحفظ ومتانة الذَّاكرة، فقد أرشدهم النَّبي ﷺ في أخريات حياته إلى كتابة شيء من سُنته لحاجة قد تعرض لذلك،
كأمرِه بكتابة خُطبةٍ خطبها في النَّاس لرجلٍ حضرها من أهل اليمن يُدعى (أبا شاه)،
وكما جاء عن عبد الله بن عمرو t: أنَّه كان يكتب كل شيء يسمعه منه ﷺ يريد حفظه، فنهاه رجالٌ من قريش عن ذلك، بذريعة أنه ﷺ بشر يتكلم في الغضب والرضا؟ فلمَّا ذكرَ ذلك لرسول الله ﷺ فقال: (اكتُب، فوالَّذي نفسي بيده ما خرج منه إلا حق).
فكان ابن عمرو يكتب ما يسمعه منه ﷺ في صحيفة أسماها (الصادقة)، في صُحفٍ أخرى كتبها قِلَّةٌ من الصَّحابة غيره في حياته ﷺ وبعد مماته خاصَّة، من أشهرها صحيفة علي بن أبي طالب t، وصحيفة سعد بن عبادة t، وغيرها.
فلمَّا تفرَّق الصحابة في الأمصار، أقبل عليهم التابعون ينهلون من علومهم، ويسمعون منهم حديث نبيهم ﷺ، مع حرصهم على تحفُّظه وانكباب بعضهم على كتابته، كما نراه في صُحف سعيد بن جبير عن ابن عباس، وصحيفة أبي الزبير المكي عن جابر بن عبد الله، وصحيفة همام بن منبه عن أبي هريرة، وغيرها من الصُّحف الَّتي لم تكن تصنيفا مُرتبا ولا مبوبا، إنما كُتب للحفظ والمراجعة، دون ترتيب أو تمييز بين أحاديثها.
فما أن ظهرت الفتن آخر خلافة عثمان t، وما نتج عن مقتله من بروز الفرق والأهواء الدَّخيلة على الإسلام، فشا الكذب عليه ﷺ، فازداد الصَّحابة والتَّابعين بإزاء ذلك توثقًا من الأخبار وتمحيصًا لرُواتها، حتَّى قال أحد كبار التَّابعين محمد بن سيرين (ت110هـ): “كانوا لا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة، قالوا: سمُّوا لنا رجالكم!”.
فحمايةً منهم للسُّنة من كلِّ دخيلٍ فيها، اشترط أهل الحديث أن يكون رُواة هذه الأسانيد:
- معروفين بصدقهم واستقامتهم في دينهم.
- وأن يكون حفظهم للمرويَّات حفظا متينا، يعرف العلماء ذلك باختبارهم أو بمقارنة مرويَّاتهم بغيرهم من الثِّقات.
- وأن يكون أحدهم تلقَّى الحديث عمَّن فوقه مباشرةً.
وبهذا وُلد (علم الإسناد)، وهو مِمَّا اختصَّ الله به الأمَّة الإسلاميَّة دون سائر الأُمَم، فلو جمعنا جميع خيوط الأسانيد الصحيحة بتشعُّباتها وتداخلاتها، لكوَّنت لنا نسيجاً ببصماتٍ يعرفها المحدِّثون، فلو أراد أحد أن يُدخل خيطًا غريبا عن ألوان هذا النَّسيج لاستلَّه نُقَّاد الحديث بكلِّ يُسر.
حتَّى قال عن هذا العلمِ (صموئيل مرجليوث) أحد أشهر المستشرقين من خصوم الإسلام:
“إنَّ قيمة نظريَّة الإسناد في تحقيق الدِّقة لا يُمكن التَّشكيك فيها، والمسلمون مُحقُّون في الفخر بعلم حديثِهم!”. [محاضرات عن المؤرخين العرب]
وزيادةً في صون السُّنة من النسيان والتحريف والنُّقصان:
تزايد إقبال العلماء على كتابة مسموعاتهم من الأحاديث النَّبوية لِما رأوه من موتِ أكثر الصحابة وكبار التابعين، حين خافوا أن يضيع أكثر حديثهم، لأجله أمر الخليفة عمر بن عبد العزيز علماءَ المدينة وغيرهم على رأس سنة مائة من الهجرة أن يجمعوا حديث رسول الله ﷺ ويكتبوه، ليبعث إلى كل أرض له عليها سلطان دفترًا منها، فكان ذلك أوَّلَ جمع رسميٍّ شامل للسُّنة النَّبوية، لم يُكتب له التَّمام لموت عمر رحمه الله.
غير أن هذا لم يُثن العلماء عن مواصلة مسير التَّدوين للسُّنة بعده، بل انتقل الحال في القرن الثَّاني إلى أن يصنِّفوا ما تلقَّوه عن الصحابة والتابعين من الأحاديث بجمع المتناسب منها في باب واحد، ثم بجمع جملة من الأبواب أو الكتب في مصنف واحد.
فكان من أوائل من صنف في مكة: عبد الملك بن جريج (ت 150 هـ)، ومعمر بن راشد (ت 153 هـ) باليمن، ومحمد بن إسحاق (ت150هـ) بالمدينة، وهو أشهر كتابٍ جامع لسيرة النبي ﷺ، كما صنَّف مالك بن أنس (ت179هـ) فيها كتابه (الموطأ)، رتب فيه الأحاديث وأقوال الصحابة والتابعين على الأبواب الفقهية، منتقيًا إيَّاها من زهاء مائة ألف حديث كان يحفظها.
وهكذا الشَّأن في غير المدينة من الأمصار، حيث ظهرت مصنفات في القرن الثَّاني تجمع السُّنَن تحت عناوين مختلفة، كـ(الجوامع) و(السُّنن)، وبعضها كان بعناوين خاصة مثل: (الجهاد)، أو (الزهد)، أو (المغازي).
ثم تطور التصنيف في القرن الثَّالث، فجُرِّدت الأحاديث النَّبويَّة عن غيرها من المرويات في كتب سُمِّيت بـ(المسانيد) رُتِّبت على أسماء رُواتها من الصحابة، أشهرها (مسند الإمام أحمد)، كما جُمعت آثار الصَّحابة والتابعين في كتب عُرفت بالمصنَّفات، أشهرها (مصنف عبد الرزاق الصنعاني) و(مصنف ابن أبي شيبة)، من غير أن تُميِّز هذه الكُتب السَّابقة ما فيها من الروايات الصَّحيحة عن رسول الله ﷺ.
حتَّى ظهرت الحاجة إلى مُدوَّنات مستقلة بتمييز صحاح الأحاديث عن غيرها، فطلع على الأمَّة شمس (الصَّحيحين) لإمامي الدُّنيا في زمنهما: محمد بن إسماعيل البخاري، ومسلم بن الحجَّاح، حرصا في كتابيهما على انتقاء أصحِّ ما رُوي من الأخبار النَّبويَّة في شتَّى أبواب الدين، على أشد ما اشترطه المحدثون في صحَّة الأسانيد والمتون، فعُدَّا بحقٍّ أصحَّ كتابين بعد كتاب الله تعالى.
كما ظهرت كُتب عنيت بأحاديث الأحكام والمَعمول به عند الفقهاء، كسُنن أبي داود، وجامع الترمذي، وسنن النسائي، وسُنن ابن ماجه.
وهذا القرن الهجري الثالث هو أزهى عصور السنة النبوية، إذ نشطت فيه الرحلة لطلب الحديث، وتُوسِّع في تدوينه، وظهرت معالم النقد للرُّواة وعِلل الحديث بصورة أجلى في مقالات المحدِّثين، وبرز أئمَّة كُثر في هذا العلم، كالإمام أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وإسحاق بن راهويه، والبخاري، وأبو زرعة الرازي، وغيرهم.
وقد تابع هؤلاء من جاء بعدهم من علماء القرن الرابع والخامس في خدمة السُّنَّة المطهرة، فكان منهم من نسج على منوال الصَّحيحين في تخريج الأحاديث الصحيحة، كابن خزيمة وابن حبان في (صحيحيهما)،
ومنهم من صنف في استدراك أحاديث على شرط البخاري ومسلم في الصحة لم يخرجاها في صحيحهما، كالحاكم في المستدرك،
ومنهم من نهج سبيل أصحاب السنن في الاقتصار على أحاديث الأحكام، كالبيهقي في (السنن الكبرى)، إلى غير ذلك من أنواع المصنفات المكملة لما صنفه العلماء في القرون قبلهم.
ثمَّ صار جُّل عمل علماء الحديث في القرون اللاحقة على اختصار كُتب الحديث السالفة وتهذيبها، أو الاستدراك والتعقيب عليها، فقلَّت بينهم الرِّواية الشَّفهية للحديث، وانصبَّ اهتمامهم على المُدوَّنات المكتوبة من جهة تصحيح نُسَخها والإجازة فيها، وجمع كلام النُّقاد في أحوال رُواتها وتمييز أسمائهم، والحكم على ما فيه من الأخبار قبولًا وردًا، ودراسة متونها شرحًا وتعليقًا، وصنَّفوا في كلِّ هذا مصنَّفات جليلةٍ كثيرة.
فعلى هذا النَّهج القويم من الصيانة والإتقان والحِيطة في النَّقل وصلت إلينا دواوين الحديث النَّبويِّ، بعد أن وفق الله لها حُفاظاً عارفين، وجهابذة عالمين، وصيارفة ناقدين، نفوا عنها تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين،
تحقيقًا لموعود الله تعالى بحفظ دينه وما به بيانُه من سُنة نبيه ﷺ: [إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون].