علاقة «نظريَّة التَّطوُّر» بالفكر العصرانيِّ في سعيه لتجديد الدِّين.
بزعم أنَّ أحكام الفقهاء جامدةٌ والحياة متطوِّرة، وأنَّ تقدُّم الغرب نتاجُ نقده لرجالِ الدِّين وتطويره، دعا أرباب الفكر العصرانيِّ إلى استعمال هذا (المنهج التَّطوُّري) في تجديد الإسلام وأحكامه، بل لا ضير عند بعضهم أن يَطال هذا التَّطوير أصول الدِّين نفسها! لا فرق عندهم بين عقائد وشرائع ومعاملات، يتقدَّمهم في هذا الغيِّ (حسن حنفي)، الَّذي نادى إلى استبدال الأسماء والمصطلحات الشَّرعية فضلًا عن مدلولاتها، واعتماد لغةٍ مغايرةٍ ـ تمامًا ـ لما في تراث الأمَّة، فكثيرٌ منها لم يعُد نافعًا في وقتنا(1)، إذ كيف «يُعقل أن يعيش الإنسان آلاف السِّنين يتعاوره التَّقدُّم الماديُّ في جميع ما يلابسه ويزاوله، ثمَّ يبقى الدِّين جامدًا لا يتطوَّر»!(2)
وعلى هذا المنوال غَدَا (الصَّادق المهدي) ـ السِّياسي السُّوداني ـ في مقالٍ له عنونه بـ«المطلوب صحوة في الفكر الإسلاميِّ لمواجهة الغزو الثَّقافي القائم»، عرض فيه معارف يجب استبدالها ليُزال الرُّكود الفكريِّ للأمَّة، منها قواعد التَّفسير وعلم الحديث! فقد «حنَّطت لنا فكرًا ومجتمعًا قديمًا، وطالبتنا عن طريق التَّقليد أن نلزم أنفسنا بالتزام ذلك المتحف الفكريِّ الاجتماعيِّ»(3).
وإن كان القدر القابل للتَّغيير عند فريق من نُشَّاد التَّجديد هؤلاء يشمل فقه العقائد والشَّرائع على سواء(4)، فإنَّ كثيرين يقصرون التَّطوير على ما دون ذلك، بدعوى أنَّ ميدان الحياة قد تركه الشَّارع للإنسان يتصرَّف فيه بما يراه الأصلح.
ترى هذا الاعتقاد في مثل قول (محمد النَّويهي): «إنَّ نصوص القرآن والسُّنة بمسائل العقيدة والعبادة هي الَّتي تُقبل، أمَّا غيرها في أيِّ ناحية من نواحي التَّشريع فتخضع للتَّعديل والتَّغيير والإضافة والحذف»(5).
أمَّا في الفكر الغربيِّ الحديث، فإنَّ القول بالارتقاء من مرحلة دُنيا متخلِّفة إلى حضارة متقدِّمة إنَّما ظهر في أواسط القرن الثَّامن عشر في كتابات عددٍ من علماء «الإنثروبولوجيا»(6) وعلماءِ الاجتماع، أي قبل كتابات (دَاروِن)(7) بقرنٍ كاملٍ، فاتُّخذت سبيلًا لتحطيم سلطة الكنيسة، وتسويغ المطامع الإمبرياليَّة بما ابتناه عليها الفيلسوف (سبُنْسر)(8) من قانونه بـ(بقاء الأصلح)(9)، وإن كانت نظريَّة (داروِن) في تطوُّر الأحياء قد وهبت هذا الفكرَ سلاحًا جديدًا استُخدم لمحاربة عقيدة الخلق الإلهيِّ(10).
فهذا عند الغرب..
وأمَّا عندنا معاشر المسلمين..
فإنَّ كلَّ منطقٍ في التَّفكير له مقدِّماته ومُسلَّماته ومصطلحاته، ونتائجه اللَّازمة لذلك، وإنَّ الأخذ بفلسفة التَّطوُّر واستعمال منطقها في مناهج العلوم الشَّرعيَّة لازمٌ منه قبول نتائجها لا محالة، وهي نتائج عن مقدَّمات فاسدة تُنتج أنَّ كلَّ شيءٍ ـ دون استثناءٍ ـ يبدأ مِن البسيط إلى المرَّكب، ومِن الأدنى إلى الأعلى.
ولا يخفى ما لهذه الدَّعوى من آثار وخيمةٍ تهدم أصل الإسلام، وتلغي شموليَّته للزَّمان والمكان، وتُضعف الثِّقة في هيمنتِه على سائر الأديان، وتفتح باب العبثِ بالأحكام والتَّهوينِ من النَّص الشَّرعي، ونشرِ ثقافة التَّبعيَّة للعِدَى بين أهل الحقِّ(11).
يشهد لهذا المستشرق البريطاني (جِب)(12) في سياق عرضه لما حدث للفكر الكَنَسيِّ من تحوُّل حادٍّ عبر أعصُره: «إذا كانت الأسباب تؤدِّي على نفس النَّتائج، فيجب علينا أن نتوَّقع حدوث تطوُّر مماثل في الفكر الدِّيني الإسلاميٍّ!»(13).
ويقول المستشرقين النَّمساوي (جولدزيهر)(14): «إنَّ الجهود الَّتي بذلها المسلمون في البقاع الإسلاميَّة المختلفة للأخذ بأسباب الحضارة [الغربيَّة]، واتِّصال هذه الجهود بحياتهم الدِّينيَّة اتِّصالًا وثيقًا، يُعِدُّهم إلى مرحلة جديدة في تطوُّر الإسلام، فيعمدوا في المستقبل نتيجةً لهذه المحاولات إلى نقد مصادر الفقه والعقائد الإسلاميَّة نقدًا تاريخيًّا علميًّا»(15).
إنَّ مُدَّعي الحداثة والتَّنوير من بني جلدتنا حين تبصَّروا السَّاحة الثَّقافية العربيَّة، وجدوا التُّراث الإسلاميَّ المكوِّن الأوَّل والأكبر فيها، و«عندما تكون الثَّقافة السَّائدة ثقافةً تراثيَّةً، فإنَّ خطاب الحداثة فيها يجب أن يتَّجه ـ أوَّلاً وقبل كلِّ شيءٍ ـ إلى التُّراث، بهدف إعادةِ قراءته وتقديمِ رؤيةٍ عصريَّة عنه»(16)، بادِّعاء أنَّه مُستمدٌّ من شرائع الحضارات السَّالفة، مُطوِّر لها بحسب ظروف زمانه الذَّي ظهر فيه.
يقول أنور الجندي:
«إنَّ الصَّيحة الَّتي استشرت في أوائل العصر الحديث، بأنَّ المسلمين خضعوا لمنطق أرسطو وفلسفة اليونان: هو قول باطل، فقد كانت محاولةً خطرةً للوصول إلى القول بأنَّه إذا كان المسلمون الأوَّلون خضعوا لمنطق اليونان، فإنَّ على أحفادهم اليومَ أن يخضعوا لمنطق الغرب الحديث الَّذي جاء ثمرة الفلسفة اليونانيَّة!»(17).
(1) «التراث والتجديد» لحسن حنفي (ص/129).
(2) من كلام سلامة موسى (ت 1378هـ) وهو كاتب مصري نصراني! من أوائل من دعا إلى فكرة التَّطور في عشرينيات القرن الماضي، انظر «سلامة موسى، اجتهاد خاطئ أم عمالة حضارية» لمحمد عمارة (ص/20).
(3) مجلَّة «المستقبل العربيّ» (العدد 89 بتاريخ 14/11/1978م)، وأعداد المجلة موجودة مفهرسةً على موقع «مركز دراسات الوحدة العربية» على الشَّبكة العالميَّة.
(4) «الفكر الإسلامي والتَّطور» لمحمد فتحي عثمان (ص/151).
(5) «مجلة الآداب» (بيروت، عدد مايو، 1970م، ص/31)، نقلا عن «التجديد في الفكر الإسلامي» (ص/377).
(6) عبارة (أنثروبولوجيا) مشتقة من كلمتين يونانيتين؛ هما: أنثروبوس (Anthvo pos) وتعني الإنسان ولوغوس (Logos)، ومعناها الكلمة أو الموضوع أو الدراسة، وبهذا يكون معنى المصطلح هو دراسة الإنسان، أو علم الإنسان في ماضيهم وحاضرهم؛ لكي يفهم هذه الكيانات الهائلة والمعقدة من الثقافات عبر التاريخ.
(7) تشارلز روبرت داروين (Charles Robert Darwin) عالم تاريخ طبيعي بريطاني، اكتسب شهرته كمؤسس لنظرية التطور، والتي تنص على أن كل الكائنات الحية على مر الزمان تنحدر من أسلاف مشتركة، توفي سنة (1882م) انظر ترجمته في موقع «ويكيبيديا» على الشبكة العالمية.
(8) هربرت سبونسر (herbert spencer) فيلسوف وعالم اجتماع ونفس انجليزي، وواحد من مؤسّسي المذهب الوضعي. صاحب نظرية تطور الأديان، توفي سنة (1903م)، انظر ترجمته في موقع «ويكيبيديا» على الشبكة العالمية.
(9) انظر «نظرية التطور» لأنور الجندي (ص/524).
(10) انظر «تاريخ الفلسفة الإغريقية» لـ د.محمد غلاب (1/25).
(11) انظر «تجديد الدين لدى الاتجاه العقلاني الإسلامي المعاصر» لـ د.أحمد اللهيب (ص/198).
(12) هامِلْتُون جِب (Hamilton Gibb) مستشرق بريطاني وُلد في الإسكندرية بمصر، من كتبه «إلى أين يسير الإسلام « و«اتجاهات حديثة في الإسلام»، توفي سنة (1971م)، انظر ترجمته في موقع «ويكيبيديا» على الشبكة العالمية.
(13) «الاتجاهات الحديثة في الإسلام» (ص/74).
(14) إجناتس جولدتسيهر (Ignác Goldziher) مستشرق يهودي مجري، هو أول مستشرق قام بمحاولة واسعة شاملة للتشكيك في الحديث النبوي، من أشهر كتبه « العقيدة والشريعة في الإسلام»، توفي سنة (1921م)، انظر ترجمته في موقع «ويكيبيديا» على الشبكة العالمية.
(15) «العقيدة والشريعة» (ص/290) بتصرف.