دعوى تقصير المحدثين في النَّظر إلى المتونِ أثناء عمليَّة النَّقد

لا شكَّ أنَّ الرِّواية الحديثيَّة من أبرز مكوِّنات التُّراث الإسلاميّ، لمِا بُني عليها من مناهج علميَّة كثيرة، ولمِا أُنتج منها من معارف أصَّلت بمجموعِها لمفهومِ النَّص الشَّرعيّ، ورسَّخت منهجَ الرِّواية والنَّقل الشَّفهي الَّذي يعدُّه العصرانيُّون السِّمة الأبرز للمعرفة الإسلاميَّة.

فكان لزامًا أن تكون أولى خطوات نقد هذا التُّراث وعصرنتِه: نقض البُنى المعرفيَّة الَّتي أنتجها أهلُ الحديث لخدمة السُّنة وتأصيلِها، بالدِّعوة إلى إعادةِ نقدِها وفقَ آلياتٍ جديدةٍ، تعتمد في مجملها على إفساح مجالٍ واسعٍ للنَّاظر فيها من أجلِ أن يمارس قراءَته الشَّخصيَّة للرِّوايات، ولو على حساب المنهج التَّوثيقيِّ الَّذي تلقَّته الأمَّة بالقبول.

يقول (عبد الله غزالي):

«لا أعرف فائدةً ذات اعتبار للإصرار في بعث كتب الحديث، لا يكفي سلامة سندها لدرءِ ما تثيره من عجب لدى كلِّ مفكِّر عصريٍّ، وأظنُّ أنَّه ليس ممَّا يزهى به المسلمون أن يُروى عن النَّبي ﷺ حديث الذُّبابة إذا وقعت في العسل وجب أن تُغمس فيه لأنَّ في أحد جناحيها داء وفي الآخر دواء! مثل هذا الحديث يجب بالذَّوق والعلم أن يُنزَّه عن نسبته إليه»(1).

وقد درج بعض أدعياء (التَّجديد) على التَّفريق بين الشَّريعة وحَمَلتِها في استنباطهم من النُّصوص وتحديد مصادر الاستدلال وأصولِه، فشريعة الوحي هي عنصر الثَّبات دون مقالات الفقهاء والمحدِّثين، فهذه قابلة للتَّبدُّل والتَّغيُّر، على ما تراه من (حسن التُّرابي) في قوله:

«لربَّما يتساءل المرء هل يتجدَّد الفكر الدِّيني؟.. الفكر هو عمل المسلمين في تفهُّم الدِّين وتفقُّهه، وذلك كسب بشريٌّ يطرأ عليه ما طرأ على سائر الحادثات من التَّقادم والبِلى، والتَّوالد والتَّجديد»(2).

من هنا ارتأى أنَّ معايير المحدِّثين محتملةٌ للقَبول والرَّفض، وأنَّه – بما أتيح لنا من وسائل مبتكرة – يمكن أن نستظهر نتائج أدقَّ من نتائج البخاريِّ نفسِه(3)! وبمثل هذا شكَّك كثير من الحداثيِّين في منهج نقَّاد الحديث، فكان من أبرز شُبههم في هذا:

دعواهم تقصير المحدِّثين في نقد متونِ الأحاديث، وارتكازهم على نقدِ أسانيدِها، دون النَّظر في المعاني.

يقول (عابد الجابري):

«بوسع المرء أن يشمَّ في الرِّواية الَّتي أوردها البخاري ـ وهي المشهورة ـ شبهة سياسيَّة، ولا لوم للبخاريِّ عليها مادام قد قصر مهمَّته على اعتبار السَّند لا غير»(4).

ويقول (إبراهيم فوزي):

«وقد صرفوا اهتمامهم لنقد رجال الإسناد في التَّمييز بين الحديث الصَّحيح أو الضَّعيف أكثر ممَّا اهتمُّوا بنقد  المتن، معتبرين أنَّ نقد المتن لا يجوز البحث فيه متى صحَّ الإسناد فابتعدوا عنه»(5).

وغيرهما كان أصرح في نبز المحدِّثين بـ(ضيق الأفق العقليِّ) مقارنةً مع غيرهم من المتكلِّمين، كما تراه في قول نصر أبو زيد ـ وأقرَّه محمَّد حمزة ـ :

«لم يكن علماء الحديث ـ بحكم غلبة الطَّابع النَّقلي التَّوثيقي على عملهم، وبحكم الارتباط بين أغلبهم وبين جهاز السُّلطة في أكثر العصور ـ يتمتَّعون باتِّساع الأفق العقليِّ القابل للخلاف والنِّقاش، مثل المتكِّلمين أو الفقهاء أو علماء القرآن، بل كانوا أقرب إلى الوُعَّاظ في تصوُّر الحقيقة، وفي التَّعصُّب ضدَّ أيِّ اجتهادٍ ليس له سند مباشر من النَّقل»(6).

أهذا الكلام ينطبق على مالكٍ والأوزاعي والشَّافعي وأحمد والثَّوري والطَّبري وغيرهم من أئمَّة الحديث والفقه؟! إنَّ من أكثر المشتغلين بالعلوم الشَّرعية استخداما للعقل هم المحدِّثون! وهم مجمعون على كون الخطأ والوهم في الرِّواية أمران حاصلان في أحاديث الثِّقات، ومنه اشترطوا في حدِّ «الصَّحيح» أن لا يكون شاذًّا ولا معلَّلًا ـ ومنشأ كليهِما الخطأ ـ مع كونِ راويه ثقةً.

يقول الإمام مسلم:

«فليس من ناقل خبرٍ وحامل أثرٍ من السَّلف الماضين إلى زماننا ـ وإن كان من أحفظ النَّاس وأشدِّهم توقِّيًا وإتقانًا لما يحفظ وينقل ـ إلَّا الغلط والسَّهو ممكنٌ في حفظه ونقله»(7).

فهذا الإقرار مِن المحدِّثين بورود الخطأ على حديثِ الثِّقة كافٍ في نسفِ تهمةِ قبولِهم للمتونِ بمجرَّد روايةِ الثِّقات لها، بل إنَّ منهج المُحدِّثين معتمدٌ على النَّظرة التَّكامليَّة في عملهم النَّقدي بتناول عُنصري الرِّواية من غير اجتزاء، لعلمهم بالعلاقة الشَّرطيَّة بين الإسناد والمتن، بمعنى أنَّ صحَّة الإسناد عندهم لا تستلزم صحَّة المتن، وأمثلة ذلك من نقدِ أئمَّة الحديث كثير مبثوثةٌ في عددٍ من البحوث المعاصرة(8).

كما أن استقامة المتنِ لا تعني صحَّة الإسناد، إذ قد يكون مشتملًا على خُلقٍ كريمٍ هو من دينِنا، أو إرشادًا هو من ينابيع الحكمة ـ مثلًا ـ، لكنَّ الإسناد ساقطٌ يمتنع معه نسبة هذه الرِّواية إلى النَّبي ﷺ بغضِّ النَّظر عن استقامةِ متن الحديث.

فهذا مسلم يروي بإسناده عن رَقَبة بن مَسْقَلة أنَّ أبا جعفر الهاشمي المدَني ـ وهو عبد الله بن مِسور المدائني ـ أنَّه «كان يضع أحاديثَ كلامَ حقٍّ، وليست من أحاديث النَّبي ﷺ، وكان يرويها عن النَّبي ﷺ»(9).

 إنَّ نقْدَ المُحدِّثين للسَّند إنمَّا هو ـ في حقيقتِه ـ لمصلحةِ نقد المتن، وأنَّ عنايتهم بالسَّند عناية بالمتن، إذ العلاقة بين الإسناد والمتن علاقة تلازم شرطيٍّ، لا علاقةَ تلازم اضطراريٍّ، أي أن العلاقة بينهما علاقة الشَّرط اللَّازم بالمشروط، فيلزم لوجود المشروطِ وجود الشَّرط، لكن لا يلزم من وجود الشَّرط وجود المشروط اضطرارًا.

يقول طاهر الجزائري (ت1338هـ):

«جعلت ـ أي المحدِّثون ـ همَّها البحثَ عمَّا صحَّ من الحديثِ لتأخذ به، فأعطت المسألةَ حقَّها من النَّظر، فبحثت في الإسناد والمتن معًا بحثَ مُؤْثِر للحقِّ، فلم تنسب إلى الرُّواة الوَهَم والخَطأ ونحوَ ذلك لمجرَّد كونِ المتنِ يدلُّ على خلاف رأيٍ لها مبنيٍّ على مجرَّد الظَّن، ولم تعتقد فيهم أنَّهم معصومون عن الخطأ والنِّسيان…فهذه الفرقة هي أوسط الفِرق وأمثلها وأقربها للامتثالِ، وهي أقلُّ الفِرق عددًا، ومقتفي أثرها ممَّن أريد به رَشدًا»(10).

وعلى هذا يتخرَّج تصرُّفهم حيال ما كان صحيحَ الإسنادِ باطلَ المتنِ، فإنَّ كثيرًا منهم لا يحكمون على السَّند وحده بِما يظهر من صحَّتِه، لأنَّ ذلك موهمٌ لقبولِ المتن، بل يوردون مع ذلك الحكمِ الإسناديِّ ما يفيد المنع من قبولِ مقتضاه أيضًا، كأن يقولوا: «سنده صحيح، والحديث باطل، أو منكر المتن..» وهكذا(11)، ولا يقولون: «إسناده صحيح» فقط، لأنَّ الأصل حينئذٍ تقصُّدهم تصحيحَ الحديثِ كلِّه، نظراً لما عُهِد من منهجهم أنَّ الإمام مِنهم إذا اقتصر على ذلك دلَّ ـ غالبًا ـ على أنَّه لم يطَّلع على علَّةٍ في المتن(12).

وبهذا يظهر أنَّ منهج أئمَّة الحديث في نقدِهم وَسَطٌ بين منهجين متضادَّينِ:

بين من يدعوا مِن الباحثين المُحْدَثين في التُّراث إلى الاقتصار في عمليَّة النَّقد على مجرَّد اختبارِ المتونِ، والتَّقليل من قيمةِ الإسنادِ فيها، وهذا لا شكَّ مَشينٌ للمنهجِ العقليِّ الَّذي يتبجَّحون به، فإنَّه مِن غير المعقولِ إثبات مقولٍ إلى قائلٍ بمجرَّد نقدِ ما أفاده ذاك المَقال، اللَّهم إلَّا إن كان هذا النَّقد غرضُه النَّظر في استقامةِ معنى المتنِ في نفسِه، فلا علاقة له بما نحن بصددِ بحثِه من علمِ الرِّواية.

وعليه كان «مِن المستحيل استعمال العقل ـ من النَّاحية العقليَّة نفسِها ـ في تقويمِ كلِّ حديث!»(13).

وهنا قد يبادر أحدهم بسؤال اعتراضي فيقول:

إذا كان الأمر حقيقةً كما قُرِّر آنفًا من استعمالِ المحدِّثين لكِلا النَّظرين ـ الإسناديِّ والمتنيِّ ـ في نقدِهم للأحاديث النَّبويَّة بشكلٍ متوازٍ، فلماذا تركوا لنا تراثًا واسعًا في دراسة الأسانيد وتقنينِها، يتضاءل أمام كثرتِه قليلُ ما صنَّفوه في نقدِ المتونِ؟!

كما قال الدكتور يوسف القرضاوي:

«إذا نظرنا في مساحة نقد المتون ومناهج دراستها وتحليلها ظهر البون الشاسع بين الجهود الضخمة الهائلة التي بُذِلَتْ في مجال نقد الأسانيد والجهود المحدودة التي أنفقت في مجال نقد المتون، ووضع المناهج والمقاييس العلمية لدراستها وتحليلها، وإبراز علاقات الأحاديث المختلفة بالزمان والمكان والبيئة والواقع»(14).

فلماذا لم يظهر أثر التَّوازن المنهجيِّ المُدَّعى في نقد الأسانيد والمتونِ على التَّفاوت المُشاهد في كمِّ المصنَّفاتِ في كِلا النَّقدين عندهم؟! حتَّى «لنجد بعضَ الباحثين الغَيورين من وَقف حِيال هذه القضيَّة وقفةَ تأمُّل، وحاول إرجاعَ منشأ الشُّبهة على هذه الثَّغرة الشَّاغرة»!(15).

بل قال أحدهم أنَّه «لا نستطيع أن نفهم هذا التَّضخُّم العجيب في علوم السَّند والرُّواة، والضُّمور ـ إلى درجة الفناء ـ في نقد المتن والتَّعامل معه»!(16).

والجواب عن هذا الإشكال:

أنَّ قولنا بأنَّ المحدِّثين قد نقدوا المتن كما نقدوا السَّند ليس معناه أنَّ نقدَهم للمتن مساوٍ في المقدارِ والكميَّة لنقد السَّند، إنَّما المراد بهذه المساواة مساواةُ الكفايةِ لا المقدار! بمعنى أنَّهم أعطوا كلًّا من السَّند والمتن حقَّهما من الدِّراسة؛ هذا أولا.

وأمَّا ثانيًا: فإنَّ الحكم على منهج المحدِّثين بالتَّقصير في حقِّ المتونِ من خِلال ملاحظتِهم كميَّة الكُتب المؤلَّفة في علم الرِّجال والمتعلِّقة بالأسانيد وأحكامِها مقارنةً بالقليل ممَّا خصَّصوه للكلامِ على المتونِ: مغالطة منهجيَّة، وهو ميزان غير مطَّرد، كثيرًا ما يؤدِّي إلى اختلالِ النَّتائج وانطباعيَّة الأحكام.

فأمَّا عن قلَّة تقعيدهم لنقد المتون في «علم الحديث»:

فالسَّبب ـ في نظري ـ راجعٌ إلى طبيعة المعيار العلميِّ المُحكَّم في هذا النَّقد المتني، والَّذي نستطيع أن نحصرَه في مكوِّنين أساسين عليهما مدار اعتبارِ المتون في نقدِها، فما انطبق عليه واحدٌ منهما رُدَّ به الحديث بغضِّ النَّظر عن إسنادِه:

أوَّلُهما: استحالة ما يفيده المتن في نفسِه (مستنكر لذاته):

وهو أكثر ما يكون في جانبِ القطعيَّات العقليَّة، بحيث يخالف الحديثُ بديهةً من بدائه العقولِ أو التَّفكير القويمِ، أو يكذِّبه الحسُّ، أو تمُّجُّه الطِّباع السَّليمة بمجرَّد سماعه، ممَّا يُنزَّه عنه الأسوياءُ من عقلاء النَّاس(17).

ولذلك نجد هذا النَّوع من الحديث لا يُروى إلَّا مِن جِهة المجروحين في عدالتِهم وضبطِهم، ولا يُعلم له مثالٌ واحدٌ في حديثِ الثِّقات، إذْ «لا يُتصوَّر مِن راوٍ يصفه المحدِّثون بالعدالة والضَّبط أن يروي المُنكر والمستحيل وما يخالف العقول»(18)، وإلَّا لَكان في ديوان الضُّعفاء والمتروكين ابتداءً، «إنَّما يوجد ما تتَّفق العقول على بطلانه في رواية الكذَّابين الَّذين حدَّثوا بالمستحيل، ولا وجه لافتراضه ـ أصلاً ـ في روايات الثِّقات، حيث كان الواقع ينفيه»(19).

ثانيهما: معارضة المتنِ لما هو أقوى منه من جِهة الثُّبوت (مستنكر لغيره):

فإذا تعارض المتن مع ما هو أصحُّ منه مِن جهة الثُّبوتِ معارضةً حقيقيَّة ـ سواءً أكان المعارض شرعيًا أو تاريخيًا أو واقعيًا ـ فإنَّه يُردُّ به، والقاعدة المُستعملة هنا: «ردُّ الأضعفِ بالأقوى» باعتبارِ درجاتِ العلمِ والظنِّ بصدقِها(20).

ولله دَرُّ الشَّافعي، إذ كان سبَّاقًا إلى التَّنبيه على هذا المعيارِ النَّقدي للمتونِ وتقعيده على هذين الأساسين السَّابقين، حيث قال:

«ولا يُستدلُّ على أكثر صدقِ الحديث وكذبِه إلَّا بصدقِ المُخبر وكذبه، إلَّا في الخاصِّ القليل من الحديث، وذلك أن يُستدلَّ على الصِّدق والكذب فيه:

بأن يُحدِّث المحدِّث ما لا يجوز أن يكون مثله،

أو ما يخالفه ما هو أثبت وأكثر دلالاتٍ بالصِّدق منه»(21).

فهذه القاعدة العامَّة الَّتي اتَّخذها المحدِّثون معيارًا في نظرِهم إلى المتونِ، قد صاغَها إمام من أئمَّة الحديث بعباراتٍ وجيزةٍ كافيةٍ، لم تستدعي كثيرَ تفريعٍ ولا تقسيمٍ، على غِرار ما فعلَه المحدِّثون في تقعيدِهم لمباحث الإسنادِ، اللَّهم إلَّا ما كان من الخطيب البغداديِّ في زيادة تفصيلِه لهذه القاعدة العامَّة، وتجزيئِها إلى خمسةِ معاييرَ يُردُّ بها الحديث مِن خلالِ متنِه، ترجع إلى المعيارين اللَّذين قرَّرهما الشَّافعي.

إنَّ سرَّ هذا الاختلاف في حجم التَّقعيد بين هذين النَّوعين من النَّقد كامنٌ في أنَّ نقدَ الإسنادِ يقوم اعتبارُه على أساسين اثنين: (وثاقة الرَّاوي) و(الاتِّصال) ـ ومردُّ الثَّاني إلى الأوَّل ـ، إذ «موجب الرَّد إمَّا أن يكون لسقط من إسنادٍ، أو طعن في راوٍ»(22)، وهذان معنَيانِ ظاهرانِ تنضبطُ مُحدِّداتُهما وأشراطُهما في الجُملة، فكان تنزيلُ هذه الضَّوابِط والأشراطِ واضحًا مُتناولًا لدى النَّاقد، معتمدًا على الاستعمالِ الآليِّ البحتِ لها على الإسنادِ والمتنِ معًا، مع مراعاته للقرائن في ذلك.

بخلافِ النَّقد المتَّجه إلى معاني المتونِ، فإنَّه مرتكزٌ على الأساسين الآنفين في كلامِ الشَّافعي ـ المتمثِّلين في استحالةِ المتنِ ومعارضته بما هو أقوى ـ على اعتبارِ أصل انتفاء الكذب والتَّناقض عن حديثِه ، وهو معنى لا يحتاج إلى كثيرِ تفكيكٍ وتفريعٍ لتأصُّل مفهومِه في أذهانِ العُقلاءِ مِن النُّظَّار.

إنَّ نفي (نكارةِ المتنِ) لم يصرِّح بها المحدِّثون في شروط صحَّة الحديث لأجل أنَّها داخلة في شرط انتفاء العلَّة، كما ظنَّه بعض الباحثين المعاصرين([23])…كلَّا، وإنَّما لأنَّ اشتراط هذا النَّفي أمر ضروريٌّ لا يمكن دفعه، ولا هو مفتقر إلى التَّأمل والنَّظر، ومن ثمَّ كان اعتناء أهل العلم بالشُّروط الَّتي تفتقر إلى الاستدلال كما سبق تقريره.

أضف إلى ذلك أنَّ الأحاديث ليست كلُّها من قبيل الأخبارِ الَّتي يمكن معرفة نكارتِها في ذاتِها، بل كثيرٌ منها من باب الإنشاء، ومِن ثمَّ لم يكن هذا الشَّرط المتنيُّ مطَّردًا عند المحدِّثين في كلِّ حديث يُراد نقده، بخلاف باقي الشُّروط الخمسة.


(1)    «نظرات في الدين» لعبد الله غزالي (ص/10).

(2)     «تجديد الفكر الإسلامي» لحسن الترابي (ص/1).

(3)     انظر «دراسة في الحديث والمحدثين» لهاشم الحسيني (ص/162).

(4) من موقعه الرسمي على الشبكة العالميَّة، نقلًا عن كتاب «ملتقى أعلام الإسلام ـ البخاري نموذجا» (2/278).

(5)    «تدوين السنة» لإبراهيم فوزي (ص/166ـ167).

(6)     «نقد الخطاب الدِّيني» لنصر أبو زيد (ص/128)، و«الحديث النبوي ومكانته في الفكر الإسلامي الحديث» لمحمد حمزة (ص/251).

(7)    «التمييز» (ص/170)، وانظر أيضًا «العلل الصغير» للترمذي (ص/746 ـ بآخر الجزء الخامس من طبعة أحمد شاكر لجامع الترمذي).

(8)    ككتاب مسفر الدميني «مقاييس نقد متون السنة»، وكتاب لقمان الهندي «جهود المحدثين في نقد متن الحديث النبوي».

(90)    مقدمة «صحيح مسلم» (1/22).

(10) «توجيه النظر إلى أصول الأثر» (1/207).

(11) وأمثلة هذا عند المحدثين كثيرة، منها ـ على سبيل المثال ـ حديث: «الربا ثلاثة وسبعون بابا، أيسرها أن ينكح الرجل أمه..»، قال فيه البيهقي في «شعب الإيمان» (7/363): «هذا إسناد صحيح، والمتن منكر بهذا الإسناد، ولا أعلمه إلا وهما، وكأنه دخل لبعض رواة الإسناد في إسناده».

         وقد بيَّن ابن الجوزي وجه نكارتِه بقوله: «ممَّا يرد صحة هذه الأحاديث أن المعاصي إنما يُعلم مقاديرها بتأثيراتها، والزنا يفسد الأنساب، ويصرف الميراث إلى غير مستحقيه، ويؤثر من القبائح ما لا يوثر أكل لقمة لا تتعدي ارتكاب نهى، فلا وجه لصحة هذا».

(12) انظر«معرفة أنواع علوم الحديث» لابن الصلاح (ص/38)، واختار ابن حجر التمييز بين من يُفرِّق في حكمه بين (إسناد صحيح) و(حديث صحيح)، وبين من يعبِّر بقوله (إسناد صحيح) عن الحديث كليَّةً سندًا ومتنًا، بحسب الاستقراء من حاله، انظر «النكت على مقدمة ابن الصلاح» (1/118ـ119).

(13) «منهج النقد عند المحدثين» لمحمد مصطفى الأعظمي (ص/81)، وانظر أيضا «مرويات السيرة النبوية بين قواعد المحدثين وروايات الأخباريين» لأكرم العمري (ص/17).

(14) «كيف نتعامل مع السنة النبوية» (ص/11).

(15) نجم خلف في كتابه «نقد المتن بين صناعة المحدثين ومطاعن المستشرقين» (ص/14ـ16).

(16)  عبد الجبار سعيد في «الإطار المرجعي لعلم نقد متن الحديث النبوي الشريف»، من مجلة «إسلامية المعرفة» (العدد 39، ص/72).

(17) انظر «الكفاية» للخطيب البغدادي (1/88ـ90)، وقال ابن حجر في «النكت» (2/845) عقب كلام الخطيب عن النوع الثاني من الأخبار الفاسدة بما تدفع العقول صحته بموضوعها وما أشبه ذلك: «ويلتحق به ما يدفعه الحس والمشاهدة».

(18) «آراء لبعض المعاصرين حول منهج المحدثين في النقد ـ عرض ونقد» لحافظ الحكمي (ص/112)، وعليه فليس بصواب من جِهة التَّاريخ ولا الأدبِ أن يقال أن منهج الصحابة y عدم التسليم لبعضهم فيما يروونه إذا كان يعارض البدهيات العقلية! كما ادعاه سعيد همام في «الفكر المنهجي عند المحدثين» (ص/63، 115).

(19) «تحرير علوم الحديث» لعبد الله الجديع (2/708).

(20) فمن احتجَّ عليه خصمُه بمعارضةِ حديثِه الَّذي يحتجُّ به بما يدَّعيه الخصمُ أنَّه أصدق منه، فإمَّا أن يردَّ عليه بنفي أن يكون ذلك المعارض أصدق منه من حيث الثُّبوت، أو بنفي وجود التَّعارض بالتَّدليل على إمكانِ الجمعِ بينهما.

(21) «الرسالة» (ص/399).

(22)  «نزهة النظر» لابن حجر (ص/80).

(23)  ذهب إليه فايز أبو عمير في بحثه «قواعد نقد الخبر في الكتاب والسنة» (ص/153ـ154، «إسلامية المعرفة»، العدد 39، 1426هـ ) قال: «أميل إلى الرأي الذي يجعل نقد المتن جزء من علم العلل، ولا بأس بأن يفرد له تعريف خاص من خلال علم العلل بأن يقال: خبر ظاهره السلامة أطلع على متنه بعد التفتيش والعرض على القواعد الضابطة للمتن على قادح ».

إقرأ أيضا